كان حكايتها.. وكانت قصيدته.. وظنّ أنه سيبقى حكايتها الأخيرة.. وظنّت أنها ستبقى قصيدته الوحيدة.. فلا بقيت هي.. ولا بقي هو
****
تمهَّل.. اقرأني ببطء صامت، ولا تبحث في قواميسك عن لغة تخاطبني بها فكل لغات العالم، منذ بدء هذا العالم، لن تجيد التعبير عني عند الكتابة إليك.. ولا التعبير عنك عند القراءة لي.
ولا تبحث في كتب السالفين عن معجزة تُعيدني إلى الحياة بك، ولا ترهق ذهنك في التفكير باكتشاف بقعة أرض تملك قدرة استقبالنا معاً من جديد، ولا تسهر ليلك في محاولة لاختراع دواء يُعيدك إلى حكايتي أو يعيدني إلى قصيدتك.
فقد كنت يا سيدي مدينتك المنيعة
وسقطت يوم فتحت أبوابي لجيوش الفراق بخزي واستسلام وهزيمة!
فإن كنت مدينتك الضائعة منك، فأنت الأمير المخلوع مني.
هكذا أصبحنا.. أو هكذا كنا دائماً.. مدينة بلا أمير، وأمير بلا مدينة، وكان اللقاء حلمنا المشترك، لأن به وحده فقط يكتمل النقص بنا.
أطلت جداً يا سيدي.. ولا اعتذار عن الإطالة
فلي حق ثرثرة ما قبل الموت.. مازال لي بك حق الهذيان الأخير..
فأعشابك الشوكية يا سيدي نبتت هذا الصباح بي.. ظهر برعمها الناعم تحت قدمي.. وازداد صلابة وهو يتسلّقني إلى أعلى.. حتى اكتملت قسوته في قمّة رأسي، فأصبحت مصلوبة بك..
بأشواكك.. كشجرة السدر التي عشقتها في طفولتك، وجلست تحتها متأبطاً أحلامك، متوسداً طفولتك، وفي داخلك إحساس بالغربة يقف عائقاً بينك وبين أقران عمر لا يربطهم بك سوى خيط من حرير الطفولة.
لماذا أهديتني الحزن هذا الصباح يا سيدي؟
مَن أوهمك أن بحور حزني قد أوشكت على الجفاف، فسارعت إلى ملئها؟
مَن خدعك بأسطورة عودتي إلى الحياة.. فسارعت إلى قتلي؟
مَن أخبرك أن جدران حلمي غير قابلة للترميم، وأنها أمست آيلة للسقوط، فسارعت إلى هدمها فوق رأسي؟
مَن أوهمك أني هجرت البكاء، فسارعت إلى تذكيري بالعهد القديم بينه وبين عيني؟
مَن قال لك إنّ أنباءك تمرّ بي مرور الكرام، فلم تحرص على تقليم أظفارها؟
مَن قال لك إنّ أمرك ما عاد يعنيني، فوقفت أمامي متعرِّياً من أحاسيسك الجميلة؟
مَن أهداك نصف الحقيقة المسموم، وتركك تلتهمها بنهم التطفُّل، وتتمدّد بعد الانتهاء منها فوق أريكة الأقزام السبعة، بانتظار أميرتك المنقذة، تمنحك الحياة بماء القبلة؟
مَن ملأ يديك بحجارة الرحمة، وعلّمك التصويب نحوي؟
أعلم.. أطلت جداً جداً جداً..
وبدأت نفسي تغضب مني.. وبدأت أغضب من نفسي.
هل يريحك أم يزعجك أن توقفت الآن عن الكتابة، ونحن مازلنا في مرحلة ما قبل البوح؟
أيؤلمك أن أسرق الكعكة منك قبل الانتهاء من تناولها؟
أيؤلمك إطفاء النور قبل الوصول إلى الحقيقة بخطوة واحدة؟
سيدي.. بدأت أتعب.. بدأ الدوار ينال مني.. بدأت أبتعد عني.. بدأت أضيع مني.. بدأت أفقدني كما فقدتك.
أستأذنك..
يحق لي أن أستأذنك.. يحق لي اختيار أرض موتي بعيداً عنك.. لست في حاجة إلى صلاتك الأخيرة عليَّ. إلى اللقاء بحلم آخر قادم، ربما جمعنا ذات ليلة رحيمة.